وفقاً للتفسير التقليدي للركود الاقتصادي العالمي الحالي، فإن سبب توقف حركة الاقتصاد في الغرب يرجع إلى أن الطلب قد انهار بعد أن سقط ضحية لتراكم حجم هائل من الديون قبل الأزمة. كما أن سبب عدم إقدام الدول والأسر على الإنفاق، يرجع لحقيقة أنهم قد باتوا غير قادرين على اقتراض الأموال التي تمكنهم من ذلك. ووفقاً للحجة التقليدية، فإن أفضل طريقة لإحياء النمو وتنشيطه مجدداً، تتمثل في العثور على طرق لجعل الأموال تتدفق مرة ثانية. لتحقيق ذلك فإن على الدول- التي ما زالت قادرة على ذلك- أن تعرض نفسها لعجوزات أكبر من تلك التي تعرضت لها بالفعل، كما يجب على البنك المركزي أن يخفض أسعار الفائدة أكثر مما هي عليه الآن، لتشجيع الأسر المقتِرة في الإنفاق على الشراء بدلاً من الادخار، كما يجب على القادة أن يقلقوا على مستويات الديون، ولكن فيما بعد، وبعد أن تكون اقتصاداتهم قد استعادت نشاطها مرة أخرى.
وهذه الرواية- وهي رواية "كينزية" تقليدية بامتياز، جرى تكيفها بما يتماشى مع أزمة الديون- هي أيضاً رواية يساهم فيها حالياً المسؤولون الغربيون، ومحافظو البنوك المركزية، واقتصاديو "وول ستريت". ويمكن للمرء أن يذهب للقول إن معدلات الفائدة المنخفضة، أو الحوافز المالية، سوف تحيي الطلب في المجالات التي ابتليت بالديون المنزلية الباهظة، بيد أن المشكلة تكمن في أن الاضطرابات الاقتصادية التي يواجهها العالم في الوقت الراهن، ليست ناتجة فقط عن طلب غير كاف وإنما تنتج- بنفس المقدار- عن عرض مشوه.
فقبل الأزمة المالية التي ضربت العالم بدءاً من عام 2008 - عدة عقود، ظلت الاقتصادات المتقدمة تفقد قدرتها تدريجياً على النمو من خلال صنع منتجات نافعة. ولكن تلك الاقتصادات احتاجت على نحو ما لاستبدال الوظائف التي فقدتها أمام التقنية، والمنافسة الأجنبية، ولدفع قيمة المعاشات وتكاليف الرعاية الصحية لسكانها الشائخين. ولذلك قامت الحكومات، وفي إطار جهدها الرامي لدفع النمو قدماً، لإنفاق أموال أكثر من قدرتها الفعلية، كما عملت على تنشيط الائتمان السهل، لحث الأسر على عمل الشيء نفسه. ولكن هذا النمو الذي هندسته تلك الدول باعتماده الكبير على الاقتراض، أثبت في النهاية أنه غير قابل للاستدامة.
وبدلاً من محاولة العودة لمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي المضخمة عمداً، التي كان يتم إعلانها قبل الأزمة المالية، تحتاج الحكومات لمعالجة العيوب المحورية في اقتصاداتها.
إن طريق الخروج من الأزمة لا يتمثل في المزيد من الاقتراض والإنفاق، وخصوصاً إذا لم يؤد الإنفاق لبناء قدرات دائمة، تساعد أجيال المستقبل على سداد الديون التي ستجد نفسها مكبلة بها. وبدلاً من ذلك فإن أفضل سياسة ممكنة في الأمد القصير هي التركيز على نمو مستدام طويل الأمد.
في الولايات المتحدة، سيعني ذلك توعية، وإعادة تدريب العمال الذين يتخلفون عن غيرهم في المهارة والقدرات، وتشجيع ريادة الأعمال، وروح الابتكار، وتسخير قوة القطاع المالي لعمل الصواب، مع العمل في الآن ذاته على الحيلولة بينه وبين الخروج عن القضبان.
إن تحقيق أي من ذلك، لن يكون بالأمر الميسور بحال. ولكن ذلك لا يعني أن تقف الولايات المتحدة مكتوفة اليدين وتتبنى موقفاً سلبياً. فعلى الرغم من أن الإصلاح التعليمي، والرعاية الصحية الشاملة مشروعان قد تأخرا كثيراً عن موعدهما، وكان يجب القيام بهما في جميع الأحوال بالتالي، فإن الولايات المتحدة لا يزال بمقدورها عمل الكثير على جبهات متعددة.
فتوفير المزيد من المعلومات عن توقعات الوظائف في التخصصات المختلفة، يمكن أن يساعد الناس على اتخاذ قرارات أفضل، قبل أن يجعلوا أبناءهم يسجلون في برامج ومساقات دراسية باهظة التكلفة وعديمة النفع في الوقت نفسه.
وفي المجالات التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة للشباب، يمكن تقديم دعم ومعونات للمؤسسات المختلفة كي تقوم بتعيين الخريجين الجدد، أي الذين يلتحقون بسوق العمل للمرة الأولى لإدخال تلك النوعية من الشباب في قوة العمل، ومساعدتهم على فهم ما الذي يتعين عليهم فعله من أجل البقاء في وظائفهم. كما يمكن للحكومة أن تقدم يد المساعدة والعون للموظفين الأكبر سناً الذين يعانون من البطالة - عن طريق دفع المزيد من أجل رعاية الأطفال وتقديم التدريب على سبيل المثال لا الحصر- بحيث يمكن لهم أن يتدربوا حتى وهم يبحثون عن عمل.
ونظراً لأن مشروعات الأعمال الجديدة هي التي ستشجع على الابتكار والإبداع الضروريين لتحقيق النمو، فإن على الولايات المتحدة أن تعمل على المحافظة على بيئة ريادة الأعمال.
أما بالنسبة للدول الصناعية، فإن أمام تلك الدول خياران: الأول أن تتصرف وكأن كل شيء على ما يرام باستثناء أن المستهلكين بها يشعرون بخوف شديد، وبحيث أن ما يطلق عليه جون ماينارد كينز"الروح الحيوانية"يغدو شيئاً يجب عليها إحياؤه من خلال إجراءات تحفيزية. أما الخيار الثاني، فهو أن تتعامل تلك الدول مع الأزمة على أنها "نداء تحذير" يدفعها للتحرك، وإيجاد علاج لكل ما تم التغطية عليه خلال العقود القليلة الماضية كي تضع نفسها بالتالي في وضع أفضل، يمكنها من الاستفادة من الفرص المتاحة مستقبلاً. في جميع الأحوال، فإن الرواية التي تقنع حكومات تلك الدول وشعوبها كذلك، هي التي ستقرر مستقبلها ومستقبل الاقتصاد العالمي في الوقت ذاته.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire